تفاقم انهيار العملة اللبنانية بعد فقدانها أكثر من 90 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، وسط أزمة اقتصادية خانقة تشهدها البلاد تتزامن مع أزمة معيشية ونقص في الخدمات الأساسية وأولها الكهرباء والماء.
وسجل سعر صرف الدولار في السوق السوداء خلال الأيام القليلة الماضية ارتفاعا غير مسبوق، حيث تجاوز 40 ألف ليرة لبنانية، في ظل ارتفاع الأسعار الجنوني الذي تشهده السوق اللبنانية، بحيث باتت أسعار السلع تتصاعد يوميا وفقا لأسعار الدولار.
ويعاني لبنان من أزمة اقتصادية ومعيشية حادة ، وصنف البنك الدولي هذه الأزمة من بين العشر أسوأ أزمات وربما من بين الثلاث الأسوأ عالميا منذ القرن التاسع عشر، في حين كشفت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) في تقرير لها مؤخرا عن ارتفاع نسبة الفقر في لبنان إلى أكثر من 82 بالمئة بين السكان.
ويرى محللون أن بوادر الأزمة الاقتصادية بدأت مع الأزمة السورية عام 2011، وتفاقمت بعد اندلاع مظاهرات أكتوبر 2019، مرورا بتداعيات فيروس كورونا “كوفيد-19” وصولا إلى المخاوف الناتجة عن عوامل خارجية، بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية، مما نتج عنها أيضا انهيارا غير مسبوق في سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار. كل هذه الظروف أدت إلى ارتفاع الأسعار وعدم قدرة آلاف العائلات اللبنانية على تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية، بسبب الغلاء الفاحش تحت وطأة انهيار الليرة اللبنانية.
وكشف نجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية مؤخرا عن أن حوالي 85 بالمئة من اللبنانيين يعيشون الآن تحت خط الفقر، داعيا المجتمع الدولي إلى التعاون مع لبنان لإعادة النازحين السوريين إلى بلدهم في ظل عدم قدرة لبنان على تحمل تبعات هذا النزوح.
ولفت ميقاتي إلى أن حوالي ثلث سكان لبنان هم الآن نازحين، مما يعني أنه بعد 11 عاما على بدء الأزمة السورية، لم يعد لدى لبنان القدرة على تحمل كل هذا العبء، لاسيما في ظل الظروف الحالية.
ومنذ نهاية عام 2019 وبدء ارتفاع سعر صرف الدولار والعملات الأجنبية مقابل الليرة اللبنانية وانهيار القدرة الشرائية لدى اللبنانيين، شهد لبنان ارتفاعا كبيرا ومتواصلا في نسبة غلاء المعيشة وصلت منذ بداية عام 2020 وحتى نهاية شهر أغسطس 2022 إلى 272 بالمئة، وفقا للبيانات الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي.
غير أن بعض الخبراء واللبنانيين العاديين لاحظوا أن ارتفاع الأسعار قد تجاوز النسبة الرسمية المعلنة، وربما تعدت الـ 500 بالمئة، إذ ارتفعت أسعار السلع المستوردة بنسبة تجاوزت ارتفاع سعر صرف الدولار، كذلك الأمر مع السلع المنتجة محليا. لذا قد تكون نسبة ارتفاع المعيشة المتمثلة بـ 272 بالمئة، غير دقيقة وتحتاج إلى إعادة نظر جدول يبين ارتفاع مؤشر غلاء المعيشة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة.
ويؤكد مهتمون بالشأن الاقتصادي أن انهيار سعر صرف الليرة وارتفاع الأسعار تسببا في ارتفاع تكلفة المعيشة في لبنان. وكشفت دراسة أجرتها “الدولية للمعلومات” (شركة إحصاءات لبنانية متخصصة) حول التكلفة الأدنى لمعيشة أسرة لبنانية مؤلفة من 4 أفراد، أن تكلفة المعيشة تتراوح بين 20 و26 مليون ليرة شهريا بالحد الأدنى، وبمتوسط 23 مليون ليرة شهريا وفقا لتوزيع التكاليف (السكن، الكهرباء، التعليم، السلة الغذائية، المواصلات، الصحة، الكساء) أي ما يقارب 600 دولار إذا احتسبنا سعر صرف الدولار 40 ألف ليرة لبنانية.
وفي هذا السياق، أوضح الدكتور أنيس أبو ذياب الخبير الاقتصادي وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي في تصريح لوكالة الأنباء القطرية “قنا” أن سعر صرف العملة هو انعكاس للوضع الاقتصادي العام.. مبينا أن الوضع الاقتصادي في لبنان يرتبط بالسياسة وبالتالي فإن تحسن سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار هو رهينة الوضعين السياسي والاقتصادي .
وأكد أبو ذياب أن هناك عدة عوامل تؤثر على أسعار النقد وفي مقدمتها عامل الثقة والنمو الاقتصادي إلى جانب الاستقرار القضائي والتشريعي، مشددا على أن هذه العوامل مجتمعة تعتبر من الركائز الأساسية لأي اقتصاد إضافة الى وجوب أن يكون ميزان المدفوعات بحالة إيجابية أو بحالة مستقرة على الأقل ولا يوجد لديه عجز وهي عناصر مفقودة في لبنان.
ولفت عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى أن هذه العناصر المذكورة أعلاه بدأت بالغياب منذ العام 2011 ، إذ أصبح ميزان المدفوعات بحالة عجز مع خروج الودائع رويدا رويدا وخسارة الاستثمارات العربية والخليجية تحديدا.
ورأى أن من بين العوامل التي أدت إلى انهيار سعر صرف العملة الاضطراب السياسي القائم بالبلاد وإقفال المصارف والمصير المجهول لأموال المودعين.
كما رأى أبو ذياب أن السبب المباشر لاستمرار ارتفاع الدولار مقابل انخفاض الليرة اللبنانية يعود إلى فقدان الثقة لغاية اللحظة وعدم انتظام عمل المؤسسات، مبينا أن لبنان أمامه استحقاقات دستورية تتمثل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة وبالتالي يجب إنجازها من أجل استعادة الثقة في لبنان محليا ودوليا.. ورجح استمرار ارتفاع الدولار مقابل انخفاض الليرة في حال عدم انتظام عمل المؤسسات وإنجاز الإصلاحات المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، بهدف صياغة برنامج يؤسس فعليا لإصلاح اقتصادي وعودة الثقة وحل المعضلات القائمة بالبلاد ومنها انهيار الليرة اللبنانية.
ولفت إلى أن توقيع اتفاق بين لبنان وصندوق النقد الدولي، بعد إنجاز اتفاق بين لبنان والصندوق على مستوى الموظفين في أبريل 2022، ينص على ضرورة إنجاز لبنان جملة من الإصلاحات وأولها إقرار قانون الكابيتال كونترول (وهي إجراءات تتخذها الحكومة ممثلة بالبنك المركزي وهيئات الرقابة المالية لضبط رأس المال) وإقرار موازنة إصلاحية وقانون السرية المصرفية وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة النظر بالقطاع العام. ورأى أن الدولار اتجاهه تصاعدي في ظل غياب الإصلاحات والاستقرار في النظام السياسي والمؤسساتي وهي عوامل أساسية في الثقة.
ويحمل اللبنانيون المسؤولين في بلادهم ضياع جنى أعمارهم وسط المصير الغامض لودائعهم في البنوك وتقييد السحوبات بالدولار وسط فقدان الليرة اللبنانية أكثر من 90 بالمائة من قيمتها مقابل الدولار، وفي ظل الغلاء الفاحش للمواد الغذائية والاستهلاكية التي يتم تسعيرها تماشيا مع ارتفاع الدولار بالسوق السوداء وبعد أن بات أغلبية اللبنانيين غير قادرين على تأمين حاجاتهم اليومية الأساسية من غذاء ودواء وبات دخول المستشفى للطبقات والأسر الفقيرة أشبه بالحلم المستحيل.
ويؤكد مهتمون بالشأن اللبناني أنه لا سبيل للخروج من براثن الأزمة الاقتصادية في البلاد وحل مشكلة استمرار انهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار سوى من خلال تخلي الطبقة السياسية عن مصالحها الشخصية، من خلال إرساء العمل الوطني لأجل كل اللبنانيين بعيدا عن المصالح الفئوية والطائفية الضيقة والمصالح الشخصية.
وفي هذا السياق أكد الخبير الاقتصادي والمالي جهاد الحكيّم في تصريح لوكالة الأنباء القطرية “قنا” أنه في ظل غياب الإصلاحات ستواصل الليرة في انهيارها أمام الدولار، وذلك رغم التفاؤل بانخفاض الدولار مع إنجاز اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الإسرائيلي مؤخرا .
واستبعد الحكيّم أن تتسارع التدفقات النقدية الى لبنان، التي تنعكس على تحسن في سعر صرف الليرة اللبنانية، في ظل غياب الإصلاحات.. ورأى أن هناك دولا نفطية ساءت أحوالها مثل غانا وغيرها، وبالتالي لا يكفي هذا العامل لتحسن الوضع الاقتصادي في لبنان.
وأكد على أن استقرار الوضع المالي والنقدي يتطلب إجراءات من قبل الدولة وأولها الحوكمة وتفعيل النظام المؤسساتي بما ينعكس إيجابا على الاقتصاد والنقد. معتبرا أن سعر الصرف يعكس الأداء الاقتصادي بالبلاد، موضحا أن لبنان ما زال يواجه جملة من التحديات ومنها ترنح القطاع المصرفي والاستشفائي وأزمة المودعين وغير ذلك من الأزمات المتراكمة .
ورأى أنه يتوجب على الدولة اتخاذ خطوات من أجل وضع حد لانهيار الليرة، موضحا أن تعدد أسعار الصرف في لبنان هو مؤشر سلبي يعكس تردي الوضع الاقتصادي والنقدي بالبلاد.. ولفت إلى أنه رغم التدفقات المالية من قبل المغتربين خلال الصيف الماضي فشل لبنان في تحسين سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار بسبب تعطيل الدورة الاقتصادية.
وخلص الحكيّم الى القول، “لا يوجد سقف محدد لسعر صرف الدولار في ظل غياب الإصلاحات وعدم ظهور بوادر إيجابية لتحسين الوضع الاقتصادي والمالي وتغيير بطريقة إدارة شؤون البلاد بما يؤثر إيجابا على الاقتصاد والنقد ومن بينها سعر صرف الليرة اللبنانية”.