الكاتب: فاطمة الأحبابي
يُدرك العالم في أوج صراعاته ضرورة مقاومة خطابات الكراهية بكلّ تمثلاتها وتصانيفها ومرجعياتها المستندة إليها والمنطلقة منها.
إذ إن ما يوقد فتيل أي صراع بشري في أصل مُبتدئِه هو خطاب. ذلك أن الاتصال بمن هو آخَر يتطلب شفرة اتصال وأداة هي اللُّغة.
فاللغة المنطوقة والمكتوبة وأي علامات تُحيل لمعنًى يُراد قوله هي أساس التعبير عن الذات المتكلمة ووصولها إلى الآخر.. وذلك حسبما يورد اللِّساني وعالم اللُّغة “ابن جِنّي” في تحديده الجانب الوظيفي للُّغة الإنسانية في قوله: “أصواتٌ يُعبِّر بها كلّ قوم عن أغراضهم”.
وعليه فقد استُغلّ النظام اللُّغوي في سياقات عِدَّة، ووُظِّف بطرقٍ غير مُتأنْسنة بقيم الإنسان الفضلى، منها خطابات الكراهية، التي هي أحد أفانين الخطابات التي عرفتها جماعة المتكلمين حسب ضرورات منافعها، وتكتنز هذه الخطابات مضامينَ تُمثِّل شُرور النَّفس البشرية، مثل:
التمييز العنصري وفق إثنيات عرقية أو دينية أو انحيازات جندرية، وتهييج السلوك العدواني لإيذاء الآخر اللا مُنتمي، وتبرير دمويَّة الإنسان وعنفه التاريخي بمزاعم عِدَّة، إضافة إلى إقصاء الآخر -الأقليات والمختلفين- بدعوى تحقيره وتهميشه، والإسفاف بكرامة الإنسان وحريته وضرورة اختلاف تجليات وجوده في تعدديَّةٍ هي فطرة وجوده.
وللحديث عن الكيفية التي يكتسب بها خطاب الكراهية شيوعه أو يدعو إلى تبنِّيه، يورد الفيلسوف ميشيل فوكو في كتابه “نظام الخطاب” قوله إن المذاهب -أي مذاهب- تميل إلى الانتشار عبر الاستعمال المشترك للمجموعة الواحدة نفسها من الخطابات، التي يعرف عددٌ من الأفراد انتماءهم المتبادل عبرها، والشرط الوحيد المطلوب، في الظاهر، هو الاعتراف بالحقائق نفسها وقبول قاعدة معينة.
وهو يقصد أن الاتفاق على مشتركات معنوية محددة تجعل الأفراد يتبنّون الخطاب، ما يعني شيوعه.. ويتضح هذا في المذاهب العقديَّة على سبيل المثال، إذ إن صُور التعصُّب العقديَّة ليست مرتكزة على آليات مذهبيَّة لأنها أساسًا تنتمي لها، حسب تعبيره، وإنما هي مرتكزة على منطوقات -خطابات- وذوات متكلمة، تصلح دومًا للاستعمال بوصفها علامةً أو تجلِّيا أو أداة انتماء مسبق: انتماء لطبقة، أو لمكانة اجتماعية، أو لعرق، أو قومية أو مصلحة.
إذًا فالمذهب -أيًّا كانت ماهيَّته- يستعمل بعض أشكال التعبير لربط الأفراد فيما بينهم، ولتمييزهم عن كل الآخرين.
بمعنى أن التداول والشيوع المتحقّق لأي خطاب كراهية مقترن بمدى المشتركات التي يتبنّاها الأتباع -أتباع أي خطاب- ويمكن الاستدلال على هذا في التآويل الدينيَّة الغلط ذات الطابع الكراهيّ. وأنا أضرب مثال التآويل في خطابات الأديان، لأنها تتسمّ بعدد أتباع كبير مقارنة بسائر الخطابات.
والتاريخ -المؤرخ منه فقط والذي وصل إلينا- يكشف الكراهية التي تسببت فيها تلك التآويل الغلط للخطابات الدينيَّة، فكيف بكل ما لم نصل إليه ولم توثِّقه طُروس المؤرخين، بل ولا تزال تتسبب فيها حتى هذه اللحظة؟!
ولتفصيل المثال، فإن بعض التفاسير الدينية تورد أفكارًا ومضامين وتعبيراتٍ تدعو إلى ازدراء فئة أو جنس معيّن أو حتى معاداة الآخر غير المعتَنِق أو المختلف، ويتَّخذ الأتباع تلك التفاسير بوصفها “حقائق”، وذلك ببساطة لأنهم ينتمون إلى نسق الخطاب، إلَّا أن الإنسان في هذا الجزء من آنِ الزمن قد بلغ مبلغًا من الوعي يُمكِّنه من إعادة النظر في جميع التفاسير والتآويل ذات الطابع الكراهيّ أو الإقصائي، وهذا كما أرى أحد مظاهر مقاومة تلك الخطابات.
لكن ينبغي توضيح حقيقة أن عملية إعادة النظر في التآويل الدينية الغلط أو الداعية إلى الكراهية ومعاداة الآخر هي عملية عويصة، لأنها تجد مقاومة من أتباع الخطاب. وأعوِّل في وجهتي على السُلطة بما لها من نفوذ وسيادة في تمكين هذه العملية والإسهام في خلق سلميَّة في جميع الخطابات الدينية وغيرها من الخطابات التي تدخل السياق التداولي.
وقد عَرفتْ البشرية من عُمْر آدَمِها الأول عنف الإنسان، وبشاعة تطرّفه حدّ النفور، إذ اقتيدت الجماعات للحروب بمحض خطاب كان يقتدر على خلخلة الأنظمة السياسية والمجتمعات الإنسانيَّة وتدمير الأمان والسلم فيها، ويكفي من لوثات خطابات الكراهية أنها تجرُّ إلى هدر قداسة روح الإنسان في كل الأرضين، وهذه وحدها علّة أولى وكافية للالتفات إلى ضرورة مقاومتها، خصوصًا في هذا التحديد الزمني الذي نلحظ فيه الإنسان ينحو نحو البهائميَّة والوحشيَّة في العيش والوجود، والاستماتة في تصدير المعتقدات وتعميم الأحاديَّة في تصوّرات الإنسان عمَّا هي الحياة وكيف يعبرها، ما يمحق أي فرص للاختلاف ويُلغي أي اعتبارات للتعدديَّة التي هي سَمْت أيِّ واقع وأيِّ نسق.
وتصيرُ ضرورة مقاومة خطابات الكراهية واجبًا بدَهيًّا يلزم الإنسانية بأسرها، وقد بدأت هذه الجهود تظهر وتحظى بصداها في التشكيلات الدَّوليَّة والاتفاقيات التي تُصدَّق فيما بينها، من مثل: العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأمم المتحدة، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.. والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وغيرها من صكوك حرية حقوق الإنسان وتعظيم إرادته وتقديس روحه في وجوده.
والتي تتضمن بنودها التعابير الآتية:
– تُحظر بالقانون أي دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف.
– تشجب الدول الأطراف جميع الدعايات والتنظيمات القائمة على الأفكار أو النظريات القائلة بتفوق أي عرق أو أي جماعة من لون أو أصل إثني واحد، أو التي تحاول تبرير أو تعزيز أي شكل من أشكال الكراهية العنصرية والتمييز العنصري، وتتعهد باتخاذ التدابير الفورية الإيجابية الرامية إلى القضاء على كل تحريض على هذا التمييز وكل عمل من أعماله.
– تتعهد كل دولة طرف بأن تشجع، عند الاقتضاء، المنظمات والحركات الاندماجية متعددة الأجناس والوسائل الأخرى الكفيلة بإزالة الحواجز بين الأجناس، وبأن تثبط كل ما من شأنه تقوية الانقسام العنصري.
لكن ينبغي القول إن خطابات الكراهية لن تزول بمجرد التصديق الدَّولي على إجراميّتها ما دام الدور الذي تعتقد الدول، بوصفها تنظيمات سيادية ذات نفوذ، أنه دورها، وهو الاقتصار على مجرد التصديق، بوصفه مشاركة دبلوماسية نفعيَّة، بل عليها أن تمارس دورها الحقيقي من منطلق مسؤولية مكانتها وأن تنظِّم في إطارها الداخلي تشريعات ضابطة، وأن يكون خطابها الإعلامي والتربوي والثقافي هو نفسه سلميًّا لا تشوبه لوثات الكراهية والانحيازات غير العقلانية، إذ من العقلانية أن أقول إنه لا ثقافة مثاليَّة لا تتخللها انتكاسات التفوُّق وحَوْز الصواب ومحاولات إقصاء الآخر المختلف وشيطنته، لأن هذه كانت بدائيّتنا الأولى في إنساننا الأول.
كما أود الإشارة إلى المحاولات المعاصرة لبعض المفكِّرين العرب في إعادة النظر في تآويل الخطاب الديني الإسلامي وفق المقاربات الإنسانيَّة، وأنا إذ أذكر محاولات مقاومة خطابات الكراهية لدى أتباع النسق الديني الإسلامي، أورد هذا من منطلق حدود اطِّلاعي، لا بدوافع تهميش محاولات الآخرين وجهودهم في أنساق الخطابات الدينية أو الثقافية الأخرى أو ما عداها.
إذ عرف العصر الحديث وعيًا بضرورة إعادة النظر في الموروثات الخطابية الدينية، خصوصًا بعد الفوضى السياسيَّة التي سِيقت باسم الدين وتعاليمه، المتمثلة في الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية والمتطرّفة.
وبرغم تعثّر بعضها ونجاح بعضها الآخر دون اعتراف بنجاحها، إذ لم تجد الصدى الكافي والسياق التداولي المناسب لقيمتها، بل وجُوبهت بمقاومة أبداها أفراد يجدون انتماءهم المتبادل في الخطاب الديني الإسلامي، فإنه يُمكن اعتبارها وجهًا قديرًا من أوجه مقاومة خطابات الكراهية.
كما أضيف ضرورة الالتفاف إلى خطابات الكراهية الثقافيَّة والاجتماعيَّة التي بدأت تبرز بوتيرة كبيرة مع واقع الانفتاح الذي يُمارس في الفضاء العام للحياة الواقعيَّة وفي الفضاء الرقمي، إذ ينبغي الحدّ من تفشِّي مظانّ المتزمّتين من مروِّجي خطاب الكراهية بأحقيَّتهم في ممارسة خطابات إقصائيَّة ومعادية للتعدديَّة والاختلاف وقِيَم التعايش مع الآخر، سواء كان هذا الآخر من خارج الثقافة والمجتمع أو من داخلهما.
ومن الضروري كذلك ألَّا تُهمَّش الخطابات المماثلة، وألَّا يُهمَّش تأثيرها السلبي في إرباك الأمن العام والخاص، لأنها تتضمن سياقات تحريضيَّة، وأن يُنتبه إلى تبريراتها ونوازعها القائمة على أفكار لا يُعبَّر عنها أو يُذاد عنها بطرق متطرفة من مثل المحافظة على الهُويَّة.