5 نوفمبر، 2023 1:11 صباحًا
لوجو الوطن اليوم
“العراق الجديد” مشروع دولة تنقصه الإرادة الوطنية
رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني

الكاتب: فاروق يوسف

العراق الجديد: لماذا فشل النظام الطائفي في العراق في بناء دولة يحتمي بها لمواجهة أزماته؟ من المستبعد أن يكون زعماء الأحزاب التي تبنتها سلطة الاحتلال الأميركي قبل وبعد عام 2003 قد خططوا للاستفادة من خبرات الدولة التي كانت قائمة في ظل نظام الرئيس الراحل صدام حسين. كان عنوان “العراق الجديد” ينطوي على قدر لافت من الرغبة في إزاحة “العراق التاريخي” من طريق تجربة الحكم بأسلوب يمزج بين الرغبة في الانتقام من الماضي ونزعة تجريد العراقيين من العناصر التي تشدهم إلى مجتمع موحد بملامح وطنية ثابتة. وهو ما برز جلياً في الدستور الجديد (2005) حيث استُبدل مفهوم الشعب العراقي بتسمية المكونات العراقية.

إذا ما تعلق الأمر بالأكراد فإن ذلك التحوّل يبدو مفهوماً لأنهم وبحكم انفصالهم العملي عن العراق بعد عام 1991 لا يرغبون في العودة إلى ماضي العلاقة التي تربطهم بالعراق العربي في ظل ظهور أجيال كردية لا تجيد العربية ولا تعرف عن العراق سوى “الأنفال” وهي الفصل الأخير من حروب الاستعادة التي خاضها الجيش العراقي من أجل الإبقاء على العراق موحداً. أما في ما يتعلق بمكوني العملية السياسية الآخرين اللذين سُميا في الدستور “الشيعة والعرب السنة”، فإن الأحزاب التي تحتكر تمثيلهما لن تتعب من رمي الوقود في المحرقة الطائفية في مسعى منها لترسيخ نظام المحاصصة الذي يشكل بالنسبة لها عنواناً لعراق هو عبارة عن خزينة أموال جاهزة للنهب.

هبة مجانية في طريق إزالة الدولة

لم يكن وارداً بالنسبة لأحزاب المعارضة العراقية التي اجتمعت بلندن قبل أشهر من الغزو الأميركي بإشراف الأميركي الأفغاني زلماي خليل زاده أنها ستكون مسؤولة عن إدارة شؤون دولة بحجم العراق، ذلك لأنها لم تكن تملك مشروعاً سياسياً موحداً وواضح المعالم ومتفقاً عليه للحكم في مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين. كانت هناك فكرتان تلحان على زعماء تلك الأحزاب هما حل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية والاستخبارية واجتثاث حزب البعث.

فكرتان تصدران عن رغبة انتقامية في إزالة كل أثر يذكر بقوة العراق، حتى وهو في أشد حالات ضعفه. من الطبيعي أن لا يكون حزب البعث موجوداً في مرحلة الاحتلال غير أن الاجتثاث هو مفهوم قسري ينطوي على أبعاد غير إنسانية. أما حل الجيش العراقي، فإنه أنهى أكثر من ثمانين سنة من حياة عسكرية منضبطة في إطار التجنيد الإلزامي الذي كان يُطلق عليه “خدمة العلم” وهي تسمية سيادية ولم تكن عقائدية، وكان الجيش العراقي مدرسة للالتزام الوطني العراقي. لقد مهدت أحزاب المعارضة العراقية الطريق لسلطة الاحتلال لإزالة الدولة العراقية، ذلك لأنها أصابت بمقتل موقع قوتها وهو الجيش العراقي. وكما أتوقع فإن ما اقترحته المعارضة العراقية كان بمثابة هبة لم يكن المحتل الأميركي يحلم بها. وهو ما شجع بول بريمير على اتخاذ إجراءات لا يسمح القانون الدولي لمحتل أن يقوم بها كما هو الحال مع إيقاف العمل بالقوانين العراقية لمدة سنة.

بين الولاءين العقائدي والوطني

حين دخلت أحزاب المعارضة بمعية قوات الاحتلال اعتبرت أملاك الدولة السابقة إرثاً لها يحق لها التصرف بها بالطريقة التي تنسجم مع مبدأ المحاصصة. لذلك لم يكن غريباً أن تعلن هيئة النزاهة مؤخراً أن مئة ألف عقار هي من أملاك الدولة قد تم الاستيلاء عليها من قبل مسؤولين عراقيين، الكثير منهم غادر منصبه منذ سنوات. ذلك التصرف يعكس طريقة النظر إلى الدولة باعتبارها اقطاعيات يمكن التصرف بها من غير الرجوع إلى القانون. ومن غير المتوقع أن تتراجع الأحزاب عن ذلك المفهوم الذي ساد بناءً على فكرة مشوهة عن النظام السياسي السابق الذي تبين أنه كان شديد الحرص على حصانة أملاك الدولة. وفي كل الأحوال فإن حزباً رئيسياً مثل حزب الدعوة والذي تولى زعيمه نوري المالكي رئاسة الحكومة لدورتين (2006 ــ 2014) لا يعترف في منطلقاته النظرية بدولة مستقلة وذات سيادة اسمها العراق بل ينظر إلى ذلك الكيان باعتباره جزءاً من دولة إسلامية ذات منطلق طائفي (شيعي) صار مركزها في طهران بعد ثورة الخميني عام 1979. ولا يشكل الخلاف على مبدأ ولاية الفقيه نقطة جوهرية يمكنها أن تؤثر في الولاء العقائدي الذي لا قيمة للولاء الوطني أمامه.

دولة كُتب لها أن لا تولد

ولكن لا الأميركيون الذين أسقطوا النظام السياسي وألحقوا مؤسسات الدولة العراقية به ولا زعماء الأحزاب الذين انتهكوا حصانة أملاك الدولة كانوا راغبين في قيام دولة محصنة بقوانين واضحة. فعلى سبيل المثال لا الحصر كان تأسيس المؤسستين العسكرية والأمنية الجديدتين قد تم على أساس مبدأ المحاصصة، وهو ما سمح بدمج أكبر عدد ممكن من أتباع الأحزاب بالمؤسستين اللتين صارتا ملعباً واسعاً لعمليات فساد، اعترف غير رئيس حكومة بوضاعتها. أتى ذلك الاعتراف من جهة الإشارة إلى عمليات سرقة المال العام لا من جهة ما انطوى عليه ذلك السلوك من إذلال للمؤسستين اللتين كان العراقيون يفخرون بهما.

كل ذلك جرى بعلم المدربين الأميركيين. كانت بعثات الضباط العراقيين إلى لندن من أجل التدريب قد فشلت غير مرة لأن معظم أعضائها لم يكن قد أنهى الدراسة الابتدائية. ليس ذلك الفشل سوى بقعة داكنة في بحر من الظلمات الذي يقف في طريق دولة، كُتب لها أن لا تولد.

زوارنا يتصفحون الآن